الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

 في رحاب الخليل وديوانه : خواطر ومشاعر

نشر في صحيفة الصحافة السودانية  يوم 14 - 05 - 2013


قبل عامين وفي مثل هذه الايام، رحل عن دنيانا الزائلة، خليل عجب الدور الهواري، هكذا كتب اسمه بجوار صورته بالجلابية والعمامة البيضاء ، متدثرا بالعباءة السوداء، والعصا على يده، على غلاف ديوان شعره «خواطر ومشاعر» الذي فرح برؤيته قبل الوداع، رحل خليل الشاعر ، ابن القضارف ومحبها ، المزارع الكادح البسيط، عرفته قبل أن أراه، وأنا أردد لجدي (الفكي البشير) القصيدة التي ألفها ألفها جدي- في مدح قرشي محمد حسن احتفاء بجمع قرشي للمديح النبوي السوداني في مجلدات وحفظ هذا التراث، كان جدي رحمه الله يستمتع بان نقرأ له هذه القصيدة التي ذكر فيها جميع شعراء المديح النبوي، وما زلت أذكر بعض ما جاء فيها « والماحي ما دخل الخلاوي مطلقا أعجب له إذ بذ للأقرانا...» «وحياتي من احيا القلوب بمدحه.....» ، وجاء في القصيدة ذكر الخليل « خليل عجب الدور عل مقامه حتى ينال محبة الرحمانا» ، وألتقيت بعجب الدور، فكان فوق ما يتصوره المرء من بساطة وطيبة قلب . وقبل أعوام قلائل احتفيت ككل من يعرفه بصدور ديوانه ، الذي تأخر كثيرا، أقلب صفحاته من حين إلى حين، فاجد في هذه الصفحات المؤانسة والحكمة والمتعة والطرافة، أجد خليلا والقضارف والزراعة والسودان، أجد الإنسان السوداني غير المتكلف ، ولكنه مترفع عن دنايا الأمور وسفاسفها ، إنها (خواطر ومشاعر) تستحق التوقف عندها فكانت هذه الكلمات.إذا الشعر لم يلهب شعورا ولم تكن تغني بآمال الشعوب قوافيهوإن هو لا يدعو لكل فضيلة فلا خير في الأوقات نصرفها فيهبهذه الأبيات يختصر علينا الأستاذ خليل محمد عجب الدور رسالة ديوانه الجميل «خواطر ومشاعر» يمتعنا فيه من خلال قرابة الثلاثمائة صفحة بأنواع من الشعر الذي لا يمل، أولا: لرسالته الهادفة، وثانيا: لطرافته المبهجة، والتي تنتزع عنك الإبتسامة إنتزاعا.قدم للديوان الأديب الشاعر، مصطفى طيب الأسماء، حياه من خلالها تحية شعرية وشهد له بالنبوغ الشعري والإستقلالية، وقدم له الأستاذ مصطفى سند « هذا ليس ديوان شعر فقط يكتبه شاعر كبير مقتدر، ولكنه رحلة عمر إنسان ممتلئ العقل والوجدان بالعلم والعاطفة ...استطاع أن يعبر عن تضاريسها ومنعرجاتها ولحظات فرجها وضيقها، وعلوها وإنحدارها بفنية رائعة وبيان رفيع ممتاز يصدر عن طبع أصيل، وعن معدن نفيس، وعن نفس كبيرة متوهجة متوثبة» ثم جاءت مقدمة الدكتور عبد الله الطيب رحمه الله، وصف فيها اسلوب خليل بانه «السهل الممتنع الذي يندع ويتدفق من صفاء السجية ووضوح الرؤية النفسية» ووصف الديوان بأنه « الحلو الخفيف الروح» وأنه مزيج من «الفكاهة والعاطفة والفكر الحصيف».يقع الديوان في ثمانية أبواب تدخل من الباب الأول فتجد الحماسة العالية والفخر من خلال القصائد الوطنية، يندب خليل من خلالها إلى نبذ الفرقة والشتات ويحض على حماية الوطن بالغالي والنفيس. وأنت في ذروة الإنفعال العاطف، إن ولجت إلى الباب الثاني «بيني وبين القضارف» تجد نفسك في عالم جديد كأنك ترتاح بعد أن أديت مباراة رياضية ، اسمع الإستاذ خليل يناديك في قصيدته « قضارفنا» :ألا فانظر لها شرقا وغربا وقل يا حبذا بلد الزراعةألم تر أن هاتيك اللواري تروح وتغتدي في كل ساعةمحملة تنؤ بما عليها من المحصول والشحن المباعةوأسواقا هنالك كل يوم صباح مساء تزخر بالبضاعةألا ياراكبا في (البص) فانزل تريث في القضارف نصف ساعة!!وابتداء من هذا الباب تتجلى عبقرية خليل في مزج العامية بالفصحي بحيث يكون النظم في غاية الطرافة و»السودانوية» ولكن كل ذلك ليس على حساب المعاني الرفيعة التي يوردها لك وأنت في قمة الإحساس بفكاهة النص وطرافته، يقول:يا حبذا (لقمة) في الصبح دافئة ألذ في الأكل من (قراصة الفيني) !لها بخار زكي كالدعاش به تزيد طعما، ونفعا للمصاربنملاحها: (ويكة لا يوقة) معه حبات ملح مرير الطعم مسحونوقطعة من (كجيك) فيه فائدة لمن شكا الضعف أو نقص الفتامينهذا الملاح اللذيذ الطعم تصنعه عمالنا الغبش في كل الأحايينيا عاملا بات طول الليل من وسخ في الجسم مكتئبا في ذلك الحينسواد جسمك يا هذا أحب لنا من كل لون غريب غير مأمونولعل البيت الاخير لا يحتاج إلى تعليق، فهو يغني عن دروس في الوطنية.ويفتح خليل الباب الثالث بصورة أوسع لتدخل مدن وأوطان غير القضارف، فتجد كسلا نصيبا في أكثر من قصيدة، وتجد مجالا لكردفان وأم درمان والبادية، بل وخارج السودان إلى سوريا وأرض الشام. وستجد نفسك وانت تقرأ بعض الأبيات قد رجعت مع الشاعر إلى عهد الصبا والأيام الجميلة التي عشتها طفلا، فتعمر ليلك ونهارك بالألعاب الجماعية:إذا قذف (الشليل) وغاب عنا شغلن وراءه منا العقولسلوني عن (شليل) إن جهلتم شليلا، واسمعوا لي ما أقولشليل عظم شاة أو بعير سليب اللحم أبيض مستطيلنسر به طوال الليل حتى يكاد النجم يشمله الأفولإذا انتظمت بنا في الليل (شدت) وضؤ البدر منتشر جميلسمعت صياحنا ورأيت قفزا غبارا تحت أرجلنا يجولوما (شدت) سوى وثبات قوم هم لله درهم فحول!!وتستمع إلى أصوات لطالما سمعتها من حولك ومع ذلك تفاجئك وأنت تقراها شعرا ، ولكنها في شعر خليل تتعايش مع الشعر في صداقة وإلفة:تهاجمها الكلاب ضحى فتجري .... ونحن وراءها (اش اش) نقول !!!ويقول:وذو القمصان عيش الريف دوما على الكانون نسمعه يقول(ططق طق) متفجرا كمفرقعات (تتش تش) كالشحم لكن لا يسيلومن باب إلى باب ننتقل إلى الحكم التي تمثلها ستة وعشرين قصيدة، تتفاوت المعاني التي تتناولها بين صفات الناس وتباينها، والشكوى من ندرة الصديق الوفي، إلى الحديث عن وصف الدنيا والنصح بفضائل الأخلاق ومكارمها، وفي بعض القصائد نجد مجاراة لشعراء آخرين أمثال الإمام الشافعي، والمتنبئ. وهو في قصائده هذه نجده متلمسا مشكلات الواقع قريبا منها يقول في قصيدة «أقلهن مهرا»:وكم رجل هنا تربت يداه ولم يعرف له أبدا مصيريحن إلى الزواج حنين إبل عطاش في الفلاة لها مرورولا حوض هنالك فيه ماء له تسعى لتشرب أو حفيروينظر للحسان بكل شوق وهل طير بلا ريش يطير؟وكم بنت جنت أم عليها هنا في الحي والدها فقيرابت ألا تزوجها عنادا وقد مضت الليالي والشهورأضرت بنتها ضررا تمادى تحس به له طعم مريرتؤمل أن يجئ لها خطيب حقائبه بها مال وفيرألا يا أيها الآباء إني لكم انتم جميعكم أشيرفكل فتية لكم احفظوها فصون العرض فيه لكم اجورولو بلغت سريعا زوجوها فإن بقاءها بكرا خطيروإن زادت عن العشرين عشرا... فبعدئذٍ لو انتظرت: تبور!وفي قصائد أخرى له تأملات في قضايا المعاش والمعاد، يقول في قصيدة «أليس كذلك؟»:يقرأ الإنسان كي ينتفعا مثلما يأكل حتى يشبعاكم أكول مالئ أمعاءه بطعام منه لم يقتنعاوهو محتاج إلى معرفة لم يكن من دونها منتفعافإن خرجت من الباب الرابع، فدونك باب «القصائد الدينية» ومعظم شعر هذا الباب من أشعار المناسبات فهو يتناول المولد النبوي الشريف في أكثر من قصيدة، وعيد الفداء، والإحتفاء بشهر رمضان أكثر من مرة، والهجرة النبوية، ولم تخل من المناسبة إلا ثلاث قصائد من اثنتي عشرة قصيدة يحتويها الباب وهي قصائد (عليكم بالقرآن) ، و (خلوة القرآن) و (في مدح خير البرية) ، وهو في هذه القصائد لا يتناول هذه المناسبات تناولا سطحيا، بل يذهب إلى العمق ويستخلص الدروس والعبر، وينظر إلى حال الامة اليوم فيخاطبها حاثا لها على العودة إلى دينها ليعود ماضيها المشرق، يقول في قصيدته: تحية إلى شهر المحرم:حياتهم كانت جهادا وغيرة على الدين والاخلاق والعرض والحمىمضو وبنوهم أصبحوا في ديارهم يعانون ظلما سيئ الطعم علقماأضر بهم داء التفرق حقبة وما التاموا حتى غدا الجو مظلماوحتى غدت مابين يوم وليلة فلسطين بركانا عنيفا تضرمافيا أخوة الإسلام بالله خلصوا دياركم من غاصب سفك الدماومن هان في وجه العدو فإنه يعيش ذليلا حاني الراس مرغماوفي باب (في الحروب) يتضح حب الشاعر للسلام وكراهيته للحرب حتى انه يتمنى أن تثور الرياح وتنبعث البراكين لتحطم كل الاسلحة التي صنعت لتدمير الناس، حتى يعيش الناس في أمان يقول في قصيدته (الحروب الإستعمارية) مصورا مآلات الحروب:كم قلوب خائفات وعيون ساهراتودموع في مساء وصباح ذارفاتوعداء كل يوم وقتال ومماتوأنين مستمر من جروح دامياتكل هذا من حروب: كدرت وجه الحياةإلا أن هذا الموقف من الحرب لا يعني لدى شاعرنا الخنوع والتبعية، يقول في قصيدته (على الأرض ظلم):يريدون منا أن نكون جميعنا ذيولا وأن الذيل للرأس تابعوهيهات بل هيهات في كل مرة نكررها كيما تصيخ المسامعفاللدين والأعراض والأرض حرمة بأرواحنا عنها جميعا ندافعأما أكبر أبواب الديوان فهو الباب السابع (متفرقات) الذي يضم ثماني وأربعين قصيدة متفرقة فيي ميادين الأدب والحث على التعلم والحديث عن الجمال ووصف المناظر الطبيعية الخلابة، وفيها أيضا قصائد مناسبات والرحلات المشاهدات. يقول في قصيدة (الجمال):وأحب هبات النسيم عليلة في الصبح أو في ساعة الاسحارويسر قلبي حين القى صاحبا زين الخصائل عاد من أسفاروأحب قرص الشمس تلقي ضوؤها الذهبي فوق شواطئ الانهارقل للذي عشق الجمال لذاته في كل غانية من الابكارإن الجمال هو الحياء يزينه الخلق الكريم السمح باستمراروسلامة العرض النزيه وحفظه من كل مايزري من الأوزارويلفت انتباهنا في قصيدته (أبولو) نظرته غير المسبوقة والتي لا تخلو من سخرية من مكتشفي القمر، وكأنه يشير إلى أن كشوفاتهم الجغرافية على الأرض كان هدفها الاول استغلال ثروات الشعوب وإذلالها واحتلالها، يقول:ماذا تريدون من بدر السماء فهل هناك في البدر ارض تنتج الذهبا؟وهل هناك مناخ مابه كدر لمن شكا الهم في دنياه والتعبا؟وهل يريدون ان تبنى القصور به ويغرسون به الرمان والعنبا؟أم انهم جزعوا من كيد بعضهم في الأرض فانطلقوا نحو السما هربا؟إني أقول لهم: عودوا إلى وطن عاش الأوائل فيه قبلكم حقباتحيون فيه، وإن متم فلست أرى لكم سوى الأرض عند الموت منقلباولا يخلو هذا الباب من القصائد خفيفة الظل مثل أرجوزة (حديقة الحيوان) وهي تصلح للأطفال ، وقصيدة (أمزجة) ، و (أبو لمبة) و (الحرباء) و (وصف لالوبة) وقصيدة (الكابوس) التي يقول فيها:إذا ما جاءك الكابوس عند النوم كالجنأو الثور الكبير الحجم جاءك رافع القرنأو الصل الخبيث السم منسابا على البطناو الكلب العقور جرى وراءك غير مستأنوكشر غاضبا وبقيت في خوف وفي حزنشتشعر أن رأسك مثل ثقل الصخر في الوزنوجيب القلب تسمعه شديدا داخل الأذنستطلق صيحة كبرى ... وهذا أغلب الظن!!وفي الباب الأخير (إخوانيات) يدون الأستاذ خليل مشاعره نحو ستة عشر من أصدقائه وأحبابه منهم الدكتور عبد الله الطيب، والشيخ عبد الرحيم البرعي، ومولانا: محمد حمد أبوسن، والأستاذ حسن نجيلة، وغيرهم ، وهو يشاغبهم حينا بأسلوبه الظريف الماتع.ما بعد القراءةطبع ديوان «خواطر ومشاعر» عام 2002 نشر وزارة التربية والتعليم ولاية القضارف والملاحظ كثرة الاخطاء الطباعية والإملائية حتى لا تكاد صفحة تخلو من هذه الاخطاء. والسيرة الذاتية للشاعر ناقصة وقفت بالقارئ عند العام 1936 والشاعر طالب في المعهد العلمي بأم درمان.ولكن مع ذلك فقد حققت هذه الطبعة امنية الشاعر رحمه الله برؤية ديوانه قبل موته، ولئن سنحت لك سانحة وسمعت من خليل قصة جهده ومجهوده ليرى كلماته هذه مطبوعة، وكيف اخذ منه أحد الناشرين ديوانه الأول قبل سنين عددا ثم أضاعه، لأنتقلت لك حالة الحسرة والالم الذي انتابه وما زال ، لم يخففهما إلا رؤية ديوانه الذي لملم أشعاره من هنا وهناك، ولا شك أن هناك الكثير والكثير مما لم ينشر من شعر عجب الدور.ولخليل عليه الرحمة أسلوب ماتع في إلقاء شعره، ولئن جلست في أحد دواوين القضارف التي تحتفي بخليل وتفرح بوجوده، لرايت كيف يلقي درره الشعرية ولرايت عيون خليل وهي تتوسع حينا وتنقبض حينا، ولشاهدت ابتسامته مع مداعباته الشعرية، ولأبصرت الشعر يتحول إلى كيان نابض بالحياة، وهو يلقي إليك أثناء هذه المسرحية الإلقائية ومضات من قواعد النحو والبلاغة، ولولا أن لخليل حياء مميز لقلنا أن تلفزيون القضارف قد فرط في أن يسجل حلقات ممتدة مع خليل ، لن يملها الناس أبدا ولو ألقى عليهم الديوان كله.رحم الله خليل عجب الدور الهواري واحسن إليه، وهو الذي قد ذكَر نفسه فأجاد تذكيرها عندما قال:يا نفس لا تجهلي ، كوني على ثقة لكل عمر وأيم الله إنهاءإن أخلص المرء في السعي الكريم يكن بعد الممات له بالذكر إحياء

الثلاثاء، 11 يناير 2022

 «السيد» الذي ينظر بعين «الصلاح»

نشر في الصحافة يوم 18 - 06 - 2013

: بعض النصوص يقرأها المرء فيحس بالمتعة والنشوة والروعة، وقد تفرض عليه فرضاً أن يقرأها مرات ومرات، ثم يحتفظ بها من أجل أن يعاود مطالعتها من حين لآخر، فيجدد بقراءتها ذات الإحساس الرائع. وانتابني هذا الإحساس وأنا أطلع على رائعة الأستاذ صلاح أحمد إبراهيم «نحن والردى» لأول مرة، في عدد من مجلة «الخرطوم» الصادر في 1994م، فقمت بكتابتها اولاً في كراسة المختارات فوجدتها درة هذه المختارات التي حوت اشعار القدماء والمعاصرين، وأسرتني بفلسفتها ومعانيها العميقة، والجرس الرنان الذي يحرص عليه صلاح في معظم أشعاره، رحمه الله.
النص الآخر الذي تتطرق إليه هذه الكلمات هو نص عرف بعنوان «أفراح الروح»، اما الكاتب فهو الأستاذ الأديب سيد قطب رحمه الله. وقد اشتهر هذا النص بأنه رسالة كتبها إلى اخته «أمينة»، إلا أن الدكتور صلاح الخالدي أكد من خلال تقديمه لهذا النص أنه عبارة عن مقتطفات من رسائل عدة، بعث بها سيد إبان بعثته إلى امريكا في عام 1984م إلى اخوانه واصدقائه في مصر، ووجدت أول فرصة لها للنشر في عام 1959م بمجلة «الفكر» التونسية تحت عنوان اختارته المجلة التونسية وهو «أضواء من بعيد» ثم اختارت دور النشر التي توالت في طبعها بعد ذلك أن تعيد طباعتها تحت عنوان «أفراح الروح»، وبهذا الإسم اشتهرت وعرفت بين الناس. وقد قرأت هذا النص مرات ومرات، فهو أهل لذلك بما حوى من فكر سامق باسلوب «سيد» المتفرد. وقد لاحظت كلما عاودت قراءة نص سيد أنني اتذكر شيئاً من كلمات صلاح، وأنني كلما قرأت من أبيات «نحن والردى» استرجع طرفاً من «أفراح الروح»، ولاحظت بلا عناء ولا اجتهاد أن التشابه بين هذين العملين العظيمين جد كبير، يكاد ينطبق عليه قول «النجاشي» وهو يصف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به عيسى عليه السلام بأنهما «يخرجان من مشكاة واحدة». وما اخال مشكاة «سيد» و «صلاح» إلا البصيرة الثاقبة.
وفي السطور التالية تجد كلمات سيد قطب تليها أبيات صلاح، ولم أتدخل في هذه النصوص إلا بوضع بعض العناوين الجانبية، ولم أزد أي شرح أو تفسير حتى لا أفسد متعة هذه النصوص، إلا ما كان في الفقرة الأولى من إضافة كلمات للدكتور عبد الله الطيب وجدتها في تقديمه الرائع لديوان صلاح، وأترك للقارئ أجر الاجتهاد في مراجعة كل فقرة، بقراءة أفكار الكاتبين ومراجعة أسلوبيهما في التعبير عن هذه الأفكار ومقارنة كل نص بالآخر، وإني لأرجو أن يجد ما وجدت من روعة وامتاع.
1/ مت لأجلها.. ستحيا فكرتك
يقول سيد:
كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان!! أما الأفكار التي لم تُطْعَمْ هذا الغذاء المقدّس، فقد وُلدت ميتة، ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام!!
واشتهرت عن سيد كلمات أخرى وردت في غير هذا النص تفيد هذا المعنى، وهي كلماته الرائعة «إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح.. ومشت فيها الحياة»
يقول صلاح:
يا ذكيَّ العودِ بالمطرقةِ الصمّاءِ والفأسِ تشظّى
وبنيرانٍ لها ألفُ لسانٍ قد تلظّى
ضُعْ على ضوئِك في الناس اصطباراً ومآثْر
مثلما ضوَّعَ في الأهوال صبَراً آلُ «ياسر»
فلئن كنتَ كما أنتَ عبِقْ
فاحترقْ
ويحسن بنا أن نسجل في هذا المقام كلمات الدكتور عبد الله الطيب الذي علق على هذه الأبيات في تقديمه لديوان «نحن والردى» فأوضحت المعنى، فقال رحمه الله «المعانى واضحة، مشرقة، مأخوذة من مصدرين معروفين في حياتنا اليومية إلى عهد قريب، الأول عمل الريحة للعرس والطهارة يدق الصندل أو الكليْت والشاف أو ما عسى ان يكون من حطب الطيب. والمصدر الثانى حطب الوقود ل «تُقَّابة» الخلوة والقرآن. والحطب يُجْمَع من الغابات وأشجار القرية. ثُمَّ يُكَسَّر بالفأس وكلاهما خَشَبُ الطيبِ وخَشَبُ وقودِ التُقَّابة، يُعْرَض للنار فتشتعل فيه. ومِجْمَر البخور قد يُوضع فيه اللبان وسواه. وحطب التُقَّابة ترتفع ألسنة نيرانه وتستضىء بها الحلقة التى حولها من الحيران.
وكلمة ضوع في قوله «مثلما ضوع في الأهوال صبراً» قد تلمس فيها فتجده معنى ضَوَّع الذى للطيب وللبخور ومعنى ضَوَّأ بتشديد الواو الذى من الضوء بقلب الهمزة عيناً على اللهجة الشائعة في كثير من كلام أهلنا.
الافتتان في قوله:
فلئن كنت كما أنت عَبِقْ
فاحتَرِقْ
قمَّة في حسن التعبير وإصابة عين الثور Bull?s eye كما يقال بالإنجليزية من أساليب الطفرة التعبيرية. وتوضيح ذلك أن البخور تزكو رائحته بالاحتراق كما هو معلوم، وكما أشار إليه حبيب بن أوس «أبو تمام» في قولته المشهورة:
وإذا أراد اللهُ نَشْر فَضِيلَةٍ
طُوِيَتْ أتَاحَ لَهَا لِسَانُ حَسُّودِ
لَوْلا اشْتِعَالُ النارِ فِيْمَا جَاوَرَتْ
ما كَانَ يُعْرَف طِيبُ عَرْفِ العُودِ
فالشاعر هنا يقول للمجاهد المناضل الصابر المخلص الحسن الأعمال «أنت عطر فائح الطيب بعملك الطيب ولكن ذكاء عطرك يفوح حقّاً حين يحترق. لذلك فاحترق يا أيها الطيب العبق الرائحة لكى تفوح وينتشر طيبك».
ولئن كُنْتَ كما أنت عبق
فاحترق.
وفي النغم انبهار ومفاجأة. ولذلك يجوز الوجهان فاصل بعد عَبِقْ، وتكتب «فاحترق» في نفس السطر. أو تكتب في السطر الذى يلى فإنها بيت شعر كامل. لأن الوقفة عند آخر الشطر الفائت طويلة تعادل أكثر من نصف شطر. وتكون بقوله «فاحترق» شطراً تاماً» انتهى نص عبد الله الطيب رحمه الله.
2/ الحياة أقوى من الموت
يقول سيد:
إن فكرة الموت ما تزال تخايل لك، فتتصورينه في كل مكان، ووراء كل شيء، وتحسبينه قوة طاغية، تُظِلُّ الحياة والأحياء، وتَرَيْنَ الحياة بجانبه ضئيلة واجفة مذعورة.
إنني أنظر اللحظة فلا أراه إلا قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة، وما يكاد يصنع شيئاً إلا أن يلتقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!!
مَدُّ الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولي!!.. كل شيء إلى نماء وتدفق وازدهار ... الأمهات تحمل وتضع، الناس والحيوان سواء. الطيور والأسماك والحشرات تدفع بالبيض المتفتح عن أحياء وحياة ... الأرض تتفجر بالنبت المتفتح عن أزهار وثمار ... السماء تتدفق بالمطر، والبحار تعج بالأمواج ... كل شيء ينمو على هذه الأرض ويزداد!!
بين الحين والحين يندفع الموت فينهش نهشة ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!! والحياة ماضية في طريقها، حية متدفقة فوارة، لا تكاد تحس بالموت أو تراه!!
لقد تصرخ مرة من الألم، حين ينهش الموت من جسمها نهشة، ولكن الجرح سرعان ما يندمل، وصرخة الألم سرعان ما تستحيل صيحة مراح... ويندفع الناس والحيوان، والطير والأسماك، والدود والحشرات، والعشب والأشجار، تغمر وجه الأرض بالحياة والأحياء!! والموت قابع هنالك، ينهش نهشة ويمضي.. أو يتسقّط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!!
الشمس تطلع والشمس تغرب، والأرض من حولها تدور، والحياة تنبثق من هنا ومن هناك ... كل شيء إلى نماء ... نماء في العدد والنوع، نماء في الكم والكيف... لو كان الموت يصنع شيئاً لوقف مد الحياة!! ... ولكنه قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة!!
من قوة الله الحي.. تنبثق الحياة وتنداح !!
يقول صلاح:
يا رياحَ الموتِ هُبي إن قدرتِ اقتلعينا
اعملي أسيافك الحمراء في الحي شمالاً ويمينا
قطّعي مِنا الذؤابات ففي الأرض لنا غاصت جذور
شتتينا، فلكم عاصفةُ مرّت ولم تَنس أياديها البذور
زمجري حتى يُبحَّ الصوتُ، حتى يعقبَ الصمت الهدير
اسحقينا وامحقينا
تجدينا.. نحن أقوى منك بأساً ما حيينا
وإذا متنا سنحيا في بنينا
بالذي يبعث فيهم كلَّ ما يبرِقُ فينا
فلنا فيهم نشور
3/ طريق الخلود
يقول سيد:
عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود!!
أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض!!
إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهماً، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا . فليست الحياة بِعَدِّ السنين، ولكنها بعدادِ المشاعر، وما يسميه «الواقعيون» في هذه الحالة «وهماً» ! هو في الواقع «حقيقة»، أصحّ من كل حقائقهم ! ... لأن الحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان بالحياة.. جَرِّدْ أي إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي ! ومتى أحس الإنسان شعوراً مضاعفاً بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلاً ...
يبدو لي أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال!
إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!!
يقول صلاح:
إن للفضل وإن مات ذووه لضياء
ليس يخبو فأسالوا أهل النهى
رُب ضوءٍ لامعٍ من كوكبٍ حيث انتهى
ذلك الكوكبُ آلافاً وآلافاً سنينا
ويضيف صلاح في مقطع آخر:
في غدٍ يعرف عنّا القادمون
أيَّ حُبٍ حَمَلْناه لَهُمْ
في غدٍ يحسبُ منهم حاسبون
كم أيادٍ أُسلفت منا لهم
في غدٍ يحكون عن أنّاتنا
وعن الآلام في أبياتنا
وعن الجُرحِ الذي غنّى لهم
كل جُرحٍ في حنايانا يهون
حين يغدو رايةً تبدو لهمْ
وفي المقطع الأخير من القصيدة قال:
رُبَّ شمسٍ غَرُبتْ والبدرُ عنها يُخبرُ
وزهورٌ قد تلاشت وهي في العطر تعيش
4/ والذي يملك عينين ولا لب: عمي!!
قال سيد:
من الناس في هذا الزمان، من يرى في الاعتراف بعظمة الله المطلقة غضّاً من قيمة الإنسان، وإصغاراً لشأنه في الوجود: كأنما الله والإنسان ندّان، يتنافسان على العظمة والقوة في هذا الوجود!!
أنا أحس أنه كلما ازددنا شعوراً بعظمة الله المطلقة، زدنا نحن أنفسنا عظمة، لأننا من صنع إله عظيم!!
إن هؤلاء الذين يحسبون أنهم يرفعون أنفسهم حين يخفضون في وهمهم إلههم أو ينكرونه، إنما هم المحدودون، الذين لا يستطيعون أن يروا إلا الأفق الواطئ القريب!!
إنهم يظنون أن الإنسان إنما لجأ إلى الله إبّان ضعفه وعجزه، فأما الآن فهو من القوة بحيث لا يحتاج إلى إله! كأنما الضعف يفتح البصيرة، والقدرة تطمسها!
إن الإنسان لجدير بأن يزيد إحساساً بعظمة الله المطلقة كلما نمت قوته، لأنه جدير بأن يدرك مصدر هذه القوة، كلما زادت طاقته على الإدراك.
إن المؤمنين بعظمة الله المطلقة لا يجدون في أنفسهم ضعة ولا ضعفاً، بل على العكس، يجدون في نفوسهم العزة والمنعة، باستنادهم إلى القوة الكبرى، المسيطرة على هذا الوجود. إنهم يعرفون أن مجال عظمتهم إنما هو في هذه الأرض، وبين هؤلاء الناس، فهي لا تصطدم بعظمة الله المطلقة في هذا الوجود. إن لهم رصيداً من العظمة والعزة في إيمانهم العميق، لا يجده أولئك الذين ينفخون أنفسهم ك «البالون» حتى ليغطي الورم المنفوخ عن عيونهم كل آفاق الوجود!!
قال صلاح:
ربّ .. من ينهلُ من بحرِ الغُوايات ظَمِي
والذي يملكُ عينينَ ولا لُبّ عمي
والذي تسحرهُ الدنيا ولم يدرِ المصير
أبلهٌ يمرحُ في القيدِ وفي الحُلمِ يسير
ريثما توقظه السقطةُ في القاعِ ولا يعرفُ أيْنا
وقال أيضاً:
ضلّ من يبحث في سر الوجود
بالذي أنكر بالبارئ أو فيه اعتقد
فاجعل الموتَ طريقاً للبقاء
وابتغِ الحقَ شريعه
واسلِك الفضلَ وقل يا هؤلاء
خاب قومُ جحدوا الفضل صنيعه
5/ يقين يقي من الفزع
قال سيد:
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة!! لقد أخذت في هذه الحياة كثيراً، أعني: لقد أعطيت!!
أحياناً تصعب التفرقة بين الأخذ والعطاء، لأنهما يعطيان مدلولاً واحداً في عالم الروح ! في كل مرة أعطيت لقد أخذت، لست أعني أن أحداً قد أعطى لي شيئاً، إنما أعني أنني أخذت نفس الذي أعطيت، لأن فرحتي بما أعطيت لم تكن أقل من فرحة الذين أخذوا.
لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة ! لقد عملت بقدر ما كنت مستطيعاً أن أعمل ! هناك أشياء كثيرة أود أن أعملها، لو مُدَّ لي في الحياة، ولكن الحسرة لن تأكل قلبي إذا لم أستطع، إن آخرين سوف يقومون بها، إنها لن تموت إذا كانت صالحة للبقاء، فأنا مطمئن إلى أن العناية التي تلحظ هذا الوجود لن تدع فكرة صالحة تموت.
وقال صلاح:
هذه أعمالُنا مرقومةُ ُ بالنورِ في ظهرِ مطايا
عبَرت دنيا لأخرى، تستبقْ
تنتهي عُمراً فعُمرا
وهي ند تحترق
ما انحنتْ قاماتُنا من حِمْلِ أثقال الرزايا
فلنا في حَلكِ الأهوالِ مَسْرى
وطُرُق
فإذا جاء الردى كَشّرَ وجهاً مُكْفهراً
عارضاً فينا بسيفِ دمويّ ودَرَق
ومُغيرا
بيدٍ تحصُدنا، لم نُبدِ للموتِ ارتعاداً أو فَرقْ
نترك الدنيا وفي ذاكرةِ الدنيا لنا ذِكرٌ وذكرى
من فِعالٍ وخلُق
ولنا إرثٌ من الحكمة والحِلم وحُبِ الكادحين
وولاءٌ حينما يكذبُ أهليه الأمين
ولنا في خدمة الشعب عَرَق

الأربعاء، 7 أكتوبر 2020

الحمد لله

 💜الحمد لله💜

قال بعض الصاحين: لو قيل لي: سيحاسبك والدك ...! لقلت: لا، ربي خير لي من أبي وأمي...

كم أتى علي من الدهر لم أكن شيئا مذكورا، فشئت لي أن أكون... 

وشئت لي - دون طلب مني ودون أن اسألك -  أن أكون من خير مخلوقاتك..

وقدرت بحكمتك أن يلتقي والدي هما: هما، ببعضهما لأكون انا: انا، لا غيري،  

وغرست فيهما غريزة حبي ورعايتي، وحثثتهما على الإحسان بي وتربيتي وجعلت ذلك حقا من حقوقي عليهما...

فإن قدر لي أن أفقد والدي وصرت يتيما، فكل الناس لهم أجر البر بي ومسح رأسي، ومن يكفلني جعلت له منزلة مع خير خلقك وأعظم رسلك حتى أنه قال:  (أنا وكافل اليتيم كهاتين)

ما أكرمني يا رب عندك فقد حرمت على الناس الكذب علي وغشي، أو التعرض لي في مالي أو نفسي  بل جعلت حرمتي أعظم عندك من حرمة بيتك الحرام كما قال رسولك الحبيب وهو ينظر للكعبة (مرحباً بكِ من بيتٍ، ما أعظمَكِ، وأعظمَ حرمَتَكِ! وللمؤمنُ أعظمُ حرمةً عند اللهِ منكِ، إن اللهَ حرّم منكِ واحدةَّ، وحرّمَ مِنَ المؤمنِ ثلاثاً: دمَه، ومالَه، وأن يُظَنَّ به ظنُّ السُّوءِ) ...

إن مرضت، حثثت الناس على مواساتي وزيارتي: فمن يعودني مساء قيضت له سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى الصباح، ومن يعودني صباحا جعلت له سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى المساء!

إدخال السرور علي عبادة حثثت عليها عبادك وجعلت من أحب اعمال عبادك اليك: كشف كربتي وقضاء ديني وطرد الجوع عني، بل مساعدتي في الوصول إلى ما أحتاج اليه أحب إلى رسولك صلى الله عليه وسلم من الإعتكاف في المسجد شهرا !

اشرب الماء بفضلك زلالا، فإن حمدتك وشكرتك غفرت لي ! ... وآكل الأكلة هنيئة من كرمك وجودك فإن قلت الحمد لله: غفرت لي ..! وألبس الثوب  مما تفضلت به علي من غير حول مني ولا قوة، فإن ذكرتك: غفرت لي!

إن أخطأت وأذنبت فتحت لي باب التوبة، أعود إلى الذنوب وأكررها فلا تمل، إن جئتك بقراب الأرض خطايا ثم تبت وأنبت، جئتني بقرابها مغفرة وقبلت توبتي وتهللت لعودتي وفرحت بها...

تيسر لي أن أطيعك بتوفيق منك، وتعطيني على ما يسرت لي من طاعتك: الحسنة بعشر أمثالها! ..... وأخطئ وأذنب لا أراعي أني استخدم ما وهبتني إياه وتفضلت به علي في معصيتك... فلا تكتب علي إلا خطيئة واحدة!

برك بي لا يتركني  عند موتي، فحثثت عبادك على الإخلاص في الدعاء لي ومن يحضر جنازتي ويصلي علي ويدعو لي جعلت له مثل جبل أحد من الأجر، فإن شارك في ستري ودفني.... جعلت له جبلا آخر من الأجر.

إلهي وربي وخالقي .. عجزت عن شكرك، أعد نعمك فلا أحصيها، فلك الحمد على ما أعلم منها وما لا أعلم... لك الحمد عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك.... 

الحمد لله.

الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

هكذا حدثني القرآن....1

عزم الأمور

عزم الأمور هي الأمور التي يعزم عليها، وينافس فيها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى: "وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي
وقد أشار القرآن الكريم لهذه الأمور المهمة وعددها 5 أمور في ثلاث آيات من القرآن الكريم:
. اثنان في آية واحدة: الصبر والتقوى وخصوصا عند البلاء والتعرض لأذى من الآخرين:
"لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" آل عمران  
 وثلاثة في آية واحدة (إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) اضافة للصبر المذكور في الآية السابقة:
"يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"
. وواحدة في آية (المغفرة والعفو لمن اساء لك) اضافة للصبر المذكور في الآيتين السابقتين:
 "وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"
والملاحظ أن الصبر قد تكرر في الآيات الثلاث ... فالصبر الصبر فإنه ضياء كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم

الأحد، 25 أبريل 2010

محمد سيد حاج......من مدارج السالكين إلى دموع المحبين


انهى الشيخ الجليل محمد سيد حاج، حياة طيبة، حسنة، عامرة بالدعوة والتعليم والتربية، أحبه الناس، كل الناس، الصغير والكبير، الغني والفقير، وبكوه ودعوا له، واسترجعوا وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
شيخنا الفقيد الجليل، من مواليد السبعينات، فهو ليس بالمتقدم في العمر، ولهذا عول عليه الكثيرون في ان يكون له دور عظيم في مستقبل الأيام، لما يتميز به من علم، وذاكرة متقدة، ومقدرة على الخطابة والتأثير فأحس الجميع بفداحة الخطب وعظم الفقد وعزى الناس بعضهم بعضا بقلوب منفطرة، واعين دامعة.
أجتمعت لفقيدنا الحبيب جملة من الخصال حببت الناس فيه، من اعظمها انه قد اوتي خصلة التواضع، وخفض الجناح، فهو يعامل الغفير والمدير سواء، وعاملة النظافة ومدير المستشفى سواء، والجندي والعميد سواء. كما أنه يلامس تفاصيل حياة غمار الناس ومشاكلهم في محاضراته وندواته وخطب الجمعة في مسجده الحافل بناحية الصافية والتي تجمع الناس من أنحاء عدة ليستفيدوا من حديثه وعلمه بأسلوبه المميز.
وقد يسر الله لي أن أكون قريبا منه في بعض الأيام، من العام 2003، وكنت أعمل حينها في تشييد مستشفى الواحة، وكان له درس أسبوعي في مصلى صندوق إعانة المرضى المجاور، ففشهدت كيف أنه يعامل الجميع وكأن له معرفة مسبقة بهم فأزداد تقديري له. ومر أن بعض كتاب الصحف هاجموا فتوى مجموعة من العلماء بتكفير الحزب الشيوعي، فعرضت على شيخنا الفاضل مقالة كتبتها في الرد على هؤلاء الكتاب؛ فقرأها باهتمام واستحسنها وأضاف عليها بعض الإضافات فوضعتها فيها، ثم نشرت في صحيفة الحياة، واستفادت صحيفة الحياة من هذا المقال فجعلت ما ورد فيه محورا للقاء أجرته الصحيفة مع الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي، ضاق به الشيوعيون ذرعا لما بان به من عوراتهم وسؤاتهم الفكرية والسلوكية.
تميز محمد سيد - رحمه الله - بأنه جمع بين التعليم والتربية، فقد اهتم بتدريس كتب إمام التربية، وشيخ التزكية، الإمام إبن قيم الجوزية، فدرس بصورة مستمرة كتاب الداء والدواء، والمعروف أيضا بإسم : الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، بقاعة عبيد ختم بجامعة الخرطوم؛وهو بلا شك اختيار مصيب لكتاب أحوج ما يكون له الطلاب في المرحلة الجامعية. كما اشتهر درسه الرائع في شرح كتاب مدارج السالكين، ونفع الله به خلقا جما. وعلى وجه العموم فقد تميز جميع إنتاج شيخنا بنفس وروح كتابات إبن القيم التربوية، ولذا فإنه يمكن القول بأن مدرسته كانت ذات بصمة خاصة في دائرة الدعوة السلفية (أنصار السنة المحمدية) والتي ينتمي إليها شيخنا الفقيد بمزجه بين التزكية والتربية الروحية واستخدام مصطلحات خاصة في هذا الشأن كما فعل ابن القيم ، مزج كل هذا مع المسائل العقدية والتي اشتهرت بها الدعوة السلفية.
مما يحسن الإشارة إليه أن شيخنا الحبيب كان داعية مؤثرا ولكنه لم يكن متعصبا إلى اختياره التنظيمي، ولهذا تجده مطلعا على كتب الآخرين، ولا انس تلك الندوة التي قدمها في قاعة الشارقة مع الشيخ الكريم محمد الأمين إسماعيل، إبان فترتنا في الطلب بجامعة الخرطوم، فقال لي بعض الأخوة مشيرا إلى حديث الأخ محمد سيد، "لكأنه يقرأ من كتاب معالم في الطريق" وقد صدق فقد أخذ المعاني وصاغها بأسلوبه الجميل.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يغفر لشيخنا محمد سيد حاج مغفرة تامة، ويرحمه رحمة عامة، وأن يرفع منزلته في العليين، وأن يعظم أجره ولا يفتنا بعده، ويجمعنا به في جنات النعيم.




الأحد، 15 فبراير 2009

الشاعر الذي لم يوف حقه....
مطالعة سريعة في مجموعة المجذوب


اذا ذكر المجذوب وشعره فلعل الخاطر يذهب الى الشاعر محمد المهدي المجذوب رحمه الله، فإن لم يفعل، فقد يذهب الى العالم الأديب الدكتور عبدالله الطيب المجذوب، رحمه الله، الا أننا نقصد في هذه المطالعة السريعة أن نتآنس مع كتاب "مجموعة المجذوب " الذي يشمل ثلاثة دواويين شعرية لثلاثة من شعراء المجاذيب وشيوخهم وعلماءهم، بالاضافة الى ستة مؤلفات للشيخ محمد مجذوب بن قمرالدين المجذوب هي:
قصة المعراج المسماة بالجمانة اليتيمة.
النور الساطع في مولد النبي الجامع.
مولد اللالئ الزاهرات والفصوص الفائقات.
النفحات الليلية في ذكر مولد خير البرية.
العقد المنظم في ذكر مولد الرسول المكرم.
سر المدد والسهود في مدح النبي المحمود.
وهذه الكتب الست هي جزء من ثلاثين مؤلفا لهذا الشيخ الجليل، وتضم مؤلفاته كتبا في علم الحديث والمصطلح، وفي الفقه وأصوله، واللغة العربية، وعلوم التصوف والسلوك. ونقتطف سيرته الذاتية بما يسمح له المقام من كتاب (المجاذيب نير وأنوار) للدكتور أحمد بابكر الطاهر جلال الدين الذي يقول: (هذا بحر فيه عاصف وماله من قرار، وسحاب دفوق، وجبل شامخ أشم. ولد في عام 1795م بالمتمة عاصمة السعداب، والعاصمة التجارية بالمنطقة، التحق بخلوة الفقيه أحمد ود حمد العمرابي، وفي رواية أخرى: بخلوة ود المحبوب في المتمة، والثالثة تدعي أن أحد معلميه في الخلوة هو ابراهيم السقا من شندي. وعندما انتقلت أمه عائشة وأولادها الى الدامر التحق محمد المجذوب بخلوة آبائه في الدامر ودرس مع القرءان الفقه والأصول والتوحيد واللغة العربية، درس محمد المجذوب على يدي اثنين من ابناء عمه الخليفة أحمد أب جدري وهما: الحاج علي الذي درس القرءان مع أولاد جابر في الشايقية، ومحمد الأزرق والذي كان يعلم الفقه ومؤلف كتاب " الاجازة في المقول والنتقول" والذي قضى مايربو على التسع سنين في الحجاز.)
نعود الى مجموعة المجذوب، والتي تبدأ بقصة المعراج، في 21 صفحة، وهي ايراد لقصة الاسراء والمعراج مكتوبة سجعاً؛ ثم تليها النور الساطع، ويقع هذا المولد في 30 صفحة (خطبة المولد خمسة صفحات تقرأ قياما، ثم خمسة وعشرون صفحة للمولد نفسه) هو مولد مسجوع أيضا، تتخلله بعض الأشعار العامية والفصيحة، ويفصل بين كل فصل وآخر ب: صل يامولانا سلم ** على الحبيب العالي كرم.
يلي ذلك مولد اللآلي الزاهرات، ويقع في ست عشرة صفحة، ثم النفحات الليلية، ويقع في اثنتي عشرة صفحة، ثم يأتي العقد المنظم، وهذا المولد منظوم بكامله شعرا في قافية رائية، ويحوي ثمانية وأربعون ومائة بيت، تتخللها التعطيرات بين كل فصل وآخر، وهي:
يارب عطر خير قبر ضمه**** بشذا من الصلوات وامنح لثمه
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه

يلي ذلك ماسمي ب " سر المدد والسهود " وهذه عبارة عن خماسيات لكل حرف من الحروف الأبجدية، تبتدئ من حرف الهمزة الى حرف الياء، يقول مثلا في حرف الهمزة:
كثير التواضع إن أردت نعوته
طلبت من البحر الخضم تفوته
له الذكر قوت، ثم فكر سكوته
حزينا تراه دائما، ثم موته
بنصب لعين، دائما ليس ينسأ

والمقطع الأخير (ثم موته، بنصب لعين) كأنما يشير لقول الله تعالى في مدح أنبيائه (إنا أخلصناهم بخالصة: ذكرى الدار) أي لا ينسون الدار الآخرة.
ثم يأتي من بعد ذلك ديوان الشيخ محمد المجذوب، ويحوي هذا الديوان حوالي 60 قصيدة، تبدأ بأشهر قصائده:
صببت دموعا يشهد الحزن أنها
أتت من فؤاد بالغرام متيم.
تليها قصيدته:
لقد طال شوقي يا أميني لطيبة
أشخصها طورا وطورا أناظر
والتي من أبياتها:
فعلت رسول الله فينا صنائعا
بغيرك لم يظفر بها قط ظافر
فعرفتنا بالله ربا وقدتنا
لطاعته، والناس هالك خاسر
وجئت لنا من ربنا بكتابه
يقص علينا لا تعيه الدفاتر
وكم نلت من مولاك علما وحكمة
لنيلهما أهل العلا قد تقاصروا

ومعظم أبيات هذا الديوان من الشعر العربي الفصيح، الموزون المقفى، ويحوي صورا رائعة في حب المصطفى صلى الله عليه وسلم والتعلق به والهيام بعشقه، وفي كل مرة يأتي بطريقة جديدة في تصوير هذه المحبة، استمع اليه وهو يشخص من نفسه شخصا آخر، ويخاطبه بقوله:
أراك حزينا، منك فاضت مدامعُ
أمّن نسمة هبت؟ أم النور لامع؟
ومالك مهما ان تذكرت جيرةً
بشعب بني سعد جفتك المضاجع !
فقل لي، فعهد الكتم عندي مؤكد
وسرك عندي لا تعيه المسامع
ولكن دمع العين منك مترجم
بأنك في حب الرسول لبارع
فيهنيك هذا، عش بهذا معذبا
فتعذيبه عذبٌ وحلوٌ ونافع !
عشقت رسول الله ربَّك وحده
فعشّق فيك الخلق، فالربُ رافع
ملكتَ قلوب المؤمنين صبابةً
إليك جميع المؤمنين توابع
كشفت ظلام الشرك بعد اشتداده
وأخلفته نورا، بنورك ساطع

ويشمل الديوان ثمانية قصائد صيغت بالعامية، ويتميز أكثرها بالإيقاع السريع، ولكن دون ركاكة في الأسلوب ولا المعاني، كما في قصيدة "ردف السلام" والتي من أبياتها:
مثله ما انشاف ** في الحسن والعفاف
قلبه عطاف ** لجملة الضعاف
وجهه كالسراج ** نوره وهاج
ليلة المعراج ** كبروا له التاج

وفي قصيدة "نسيم البيت لاقانا" يطنب في ذكر الاء الله ونعمه على عباده، يقول:
بديت بالله مولانا ** عظيم الفضل حنانا
لحج البيت نادانا ** وبالأنوار مدّانا
من الإعدام انشانا ** بمحض الفضل سوانا
وفي الأرحام غذّانا ** بسرٍ منه سبحانا
ببطن الأم ربانا ** لوقت الوضع أبدانا
جنينا طاهرا كانا ** وبالأملاك حفّانا
بضرع يابس اسقانا ** شرابا منه ألبانا
وحين الفطم قوّانا ** وبالإطعام ربانا
نَعَم بالخير أسدانا ** نعيما منه ألوانا
وثم العقل أولانا ** وبالتوحيد حلّانا

ثم تأتي بعد القصائد العامية، المريعات العشرة، ومربعات أي أن كل بيتين (أربعة أشطر) تمثل وحدة بذاتها، يقول في القصيدة الثالثة من المربعات العشرة:
فدمع العين لم تطفي ** لنار الشوق من جوفي
نَعَم، تُطفى اذا وصلوا ** وداموا لي بهم وصلا
* * * *
أحن حنين من فقدت ** وليدات فما وجدت.
لقبر المصطفى فابكوا ** عساكم تبلغوا الأملا

ويبدو من الفصاحة المتدفقة من أبيات المديح، سعة الاطلاع على الشعر القديم، وعمق الثقافة بالأدب والتراث الشعري للأدباء الأوائل، وتظهر هذه الصلة بالشعر القديم عندما تجد الاهتمام بتشطير أو تخميس بعض أبيات الشعراء السابقين، واعطائها المعاني التي يقصدها شاعر يهيم بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقول مشطرا أبياتاً مشهورة:
رُفع الحجاب لنا فبان لناظري
نور له تتحير الأفهام
فتعجبت من أمره فإذا به
قمر تقطع دونه الأفهام
فاذا المطي بنا بلغن محمدا
فلها علينا المن والانعام
واذا عجزنا عن مكافأة لها
فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطئ الثرى
طابت لنا من ربها الأيام
من يدها هذي الكريمة سيدت
فلها علينا حرمة وذمام
(اذا أردت أن تقرأ القصيدة الأصلية فعليك ان تقرا عجز البيت الثاني مع صدر البيت الأول وهكذا)
والقصائد الأخيرة من الديوان تشمل وصايا ونصائح ووعظ وعتاب للنفس وتذكير لها باحسان الله تعالى، ويذمها على التكاسل في الطاعات، يقول في احداها:
وتبدو لي الأعذار ان رمت طاعة
وان رمت للعصيان طرتُ بجملتي!
وقلبيَ لم أعهد لهُ وجلةً اذا
ذكرتُ لربي في المساء وبكرةِ
اذا قمت وقتاً للصلاة تراكمت
عليّ من الدنيا الهموم وحفّتِ
كأن لم أكن أومن بقول رسولنا
يناجي المصلي ربَّه، بئس حالتي!
وأجهر بالتكبير والحمد والدعا
أقولهما قولاً بغاية غفلتي
أُثني المثاني ركعة بعد ركعةٍ
وما انفعلت نفسي لها أو لسورةِ
ومع ذاك مغترٌ، فقل متعجباً:
على أي شيئ بعد هذي المعرةِ
فلا حول لي مما ذكرتُ ولا قوىً
بغيرك ياربي، فعجل اغاثتي
وله أبيات تحث على علو الهمة أحسن فيها وأجاد، يقول فيها:
شمِّر لنيل الفضل ان رُمت العلا
فالفضل والعليا لكل مشمّرِ
خوفُ الإله وحبُّهُ والزهدُ في
دار الدنية خذ لقلبك عمِّرِ
والذل والخسرى لطالب راحةٍ
لو يبلغن في العُمر عُمر معَمِّر
والزم لحسن الخلق خير تجارة
وحظوظ نفسك ما استطعت فدمِّر

وتشتمل المجموعة أيضا على ديوانين آخرين يجمل بنا الّا نتجاوزهما دون المرور عليهما لما يحويانه من شوق وحب وابداع.
الديوان الأول ديوان "فريد العاشقين" للخليفة الاستاذ الشيخ الطاهر المجذوب، ويحوي هذا الديوان على تخميس عدد من قصائد الديوان الأول، مثل تخميس قصيدة "صببت دموعاً" و"نفحة مسك" ، وله أيضا قصائد خاصة به تتسم بالروعة والأبداع، ولقد أسرتني، حقاً، قصيدته:
زائري في الطيف هل من عودةٍ
تُحي منها مُهجتي، بل أصغرَي
سادتي يا سادتي عطفاً على
من أذاب الوجدُ منه القلبَ وَيْ !!
وبراه الشوق حتى إنه
صار مكلوما وفي الأحشاء كي
ما ألذ العيش إن جد السُرى
حيث حادي العيس يحدو نحو حي

وقصيدته الأخرى:
حادياً للعيس قف ثم احملن
لي تحيات الى خير الورى

ووللحق، فإن قصائد الشيخ الطاهر روضات يانعات تعبر عن الحنين وأنين الشوق:
كيف الوصول الى حبيب قد سبا
قلب المهيم وهو لا يخفاه
نار المحبة أضرمت لحشاشتي
والبين عوقني من رؤياه

وهي أربع وثلاثون قصيدة أقل ما توصف به أنها رائعة.
ثم يأتي ديوان العارف بالله الشيخ محمد مجذوب بن الشيخ الطاهر، الملقب بالشيخ، ويبتدئ الديوان بتشطير قصيدة:
إن لمع البرق من خَيْف مِنى
لم يدع للعيش طيباً أو هنا
وسناه في رُبا ذاك الحمى
جدّد الوجد وهاج الحزنا
كلّما طرّز أثواب الدُّجى
نسجه ألبسني ثوب الضنى

وهي قصيدة من ستة عشر ومائة بيت، من أبياتها نقتطف:
وبوادي طيبة لي حاجة
قد غدا قلبي بها مُرتهنا
حاجةٌ من لي بها إذ أصبحت
هي في النفس المنى كل المنى
يا مذيدين المطايا غُوّصاً
في سراب البيد تجفو العَطَنا
وإذا ما السير قد جدَّ بها
في ظلام الليل تحكي السُّفُنا
قدّموا حب رسول الله بل
في رضاه يرتضون المحنا

ويحوي الديوان خمسة قصائد للشاعر، وتشطير تسع قصائد، وتخميس قصيدة "فؤادي بربع الظاعنين أسير" ، وأشهر القصائد المشطرة قصيدة ألفا هاشم الفلاتي المهملة والتي مطلعها:
ألا واصل الله السلام المُردَّدا
لأكرم رسل الله طرا، وأسعدا
وأوسع آلاءً وكمّل طوله
لأوسع كل الرسل سعْداً وأحمدا

وهي قصيدة من أربعة وعشرين بيتاً ليس بها حرف به نقطة، أي أنها مقتصرة على أربعة عشر حرفا من حروف الهجاء.
على هامش المطالعة:
الطبعة التي بأيدينا طبعت عام 1359 من الهجرة (أي قبل أكثر من ستين عاما) وهي الطبعة الثانية، بواسطة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر؛ والمجموعة تحتاج الى جهد في التحقيق وشرح الكلمات الصعبة والمعاني. ونطمع أيضا في أن نرى بقية مؤلفات الشيخ في العلوم الشرعية، والتي ذكر أنها تصل الى الثلاثين مؤلفا، يمكن بفضلها معرفة مستوى العلم لدى علماء ذلك الزمان، وتثري المكتبة السودانية.
تطرقت المجموعة الى بعض النقاط في بعض مسائل العلوم الشرعية مثل قوله ردا على المعتزلة والفلاسفة (تالله لا خلاف في أن الاسراء بالجسم الشريف عند المحققين، وقد جزموا أن المعراج كان به أيضاً عند كُمَّل العارفين) ، ولا شك أنه قد أصاب وأحسن في هذه الكلمة، الا أن المجموعة تحوي أيضا ما يوجب مراجعته، مثل قوله في بداية قصيدة صببت دموعا (أخبرني الهاتف أن البداءة بهذه الكيفية جالبة لروحانية النبي صلى الله عليه وسلم ومدخلة في شفاعته) ؟؟؟! كما يلاحظ تركيز المجموعة (وخاصة في الموالد) على أنه لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله الخلق، وما خلق الجنة والنار، وأنه صلى الله عليه وسلم هو أول الخلق؛ وهو وما يحسن أن يكون من جملة أعمال التحقيق ويا حبذا لو انبرى له جهد أحد علماء أبناء المجاذيب.






الجمعة، 6 فبراير 2009

العلمانيون والقرآن الكريم: (واستغشوا ثيابهم)!
إذا كانت أسلحتك هزيلة ولا تقوى على منازلة خصمك المدجج بأعتى الأسلحة والقادرة على حسم المعركة في لحظات، فإن أذكى طريقة لجعل المعركة متكافئة بحيث يكون احتمال فوزك فيها كبيراً هو أن تحاول تحويل المعركة إلى مصارعة حرة بدون استخدام أي سلاح سوى الاعتماد على القوة الجسدية للمصارع، وامكانيات (الحرفة) على الخصم، وهذا بالضبط ما يفعله العلمانيون في معاركهم الجدلية مع الإسلاميين.
الإسلاميون يملكون سلاحاً قوياً له قدسية عظيمة في قلوب الجماهير المشاهدة لهذه المعركة..يستطيع هذا السلاح أن يفكك المشروع العلماني ويرميه إلى مقبرة أو مزبلة التاريخ بصربات قاضية لا تبقي ولا تذر..هذا السلاح هو القرآن الكريم؛ آيات الله وكلامه التي لا مبدّل لها ( وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)، ولهذا يدأب العلمانيون دائماً على فك الارتباط (بين محاورهم والقرآن) بحيث لا ينفعه استخدام آية من كلام الله عز وجل في حواره أو إسناد حجته. ويتوسلون لذلك بعدة وسائل منها:(رفضهم المباشر للاستدلال بالقرآن الكريم) لأن من يستدل بآية من القرآن –كما في وجهة نظرهم- فإنه يمارس إرهاباً فكرياً.
أرأيتم ضعف الحجة وخورها؟!..إن من يقول ذلك فإنه يعلن صراحة قوة سلاحك الذي أرهبه، ويقرُّ تماماً بهرزيمته أمام هذا السلاح، ولكنه يقولها كما قالها الأولون (لاتسمعوا لهذا القرآن).
وأذكى من هؤلاء من يرفضون الاستدلال بالقرآن بحجة أن القرآن كتاب مقدس ..كتاب عظيم..ونحن بشر مدنسون بالذنوب، لا ينبغي لنا أن نهبط بهذا الكتاب العظيم المقدس إلى منزلتنا ونخوض به في خضم السياسة!..والسياسة كما هو معلوم (لعبة قذرة)!.
سبحان الله!..إذا كان ذلك كذلك، فما معنى أن يكون القرآن الكريم كتاباً مقدساً؟!..ألم يكن الله سبحانه يعلم أن البشر خطاءون ومذنبون؟!..ولماذا أنزله عزَّ وجل؟!..أليس لتطهيرهم وتزكيتهم بهذا القرآن عندما يطبقونه ويعملون بأحكامه؟!.
وإذا تقدم هؤلاء العلمانيون خطوة وتركوك تستدل بآية، فإنهم يعودون ليفرغوها من أي معنى بنظريتهم في (نسبية الحق)..وبالتالي نسبية (تفسير الآية)!..أي إن كل إنسان له الحق في فهمها بطريقة تختلف عن الآخر لأن كل إنسان له عقل يختلف عن الآخر!.
هذه الحجة ينكرها العقل نفسه، لأن كل العقول قد أقرت وأجمعت على مسائل لا مجال لإنكارها في كل العلوم..سواء في الفيزياء و الطب أو الهندسة أو غيرها..فلماذا لا يتفقون على فهم محكم من القرآن؟!..وهذه الحجة الأخيرة من حجج العلمانية تعطي مثالاً واضحاً لللغو في القرآن الكريم، كما جاء في قوله تعالى : (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)..قال القرطبي في معنى اللغو : (ما لا يعلم له حقيقة ولا تحصيل).
ولكن ليبشر العلمانيون أنه لن تكون الغلبة إلا للحق (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).